سورة هود - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)}
{أَمْ يَقُولُونَ} إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم {ما يوحي} [هود: 12] وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم، وتقدر ببل. والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون، وذهب ابن القشيري إلى أن {الارض أَمْ} متصلة، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله، والأول أظهر، وأيًا مّا كان فالضمير البارز في {افتراه} لما يوحى {قُلْ} إن كان الأمر كما تقولون {فَاتُواْ} أنتم أيضًا {بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} في البلاغة وحسن النظم وهو نعت لسور وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع، وقيل: مثل وإن كان مفردًا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرًا إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] وقد يطابق كقوله سبحانه: {ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم} [محمد: 38]، وقيل: إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله، وقيل: إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد، وأيضًا عشر ليس بصيغة جمع فيعطي حكم المفرد ك {نخل منقعر} [القمر: 20] وقوله سبحانه: {مفتريات} نعت آخر لسور قيل: أخر عن نعتها بالمماثلة لـ {ما يوحى} [هود: 12] لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لرا توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء، والمعنى {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادىء ذلك فيكم من ممارس الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم.
والكثير على أن هذا التحدي وقع أولًا فلما عجزوا تحداهم {بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ} كما نطقت به سورة البقرة. ويونس، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولًا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدري بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن.
وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك، وجعل الشعر ما تقدم من السور إلى هنا، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني. وهذه السورة حسا علمت مكية فكيف تصح الحوالة كة على ما لم ينزل بعد، ثم قال: ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال: بل نزلت سورة يونس أولًا.
ثم نزلت سورة هود.
وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ووجه ذلك بأن ما وقع أولًا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، وضعفه في الكشف، وقال: إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام وتحداهم أولًا بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها فتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم: {افتراه} فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله: ولا يزيل الريب إلخ منعًا ظاهراف، وللعلامة الطيبي هاهنا كلام زعم أنه الذي يقتضيه المقام وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف.
هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: {مُفْتَرَيَاتٍ} معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقًا وإن كذبًا، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به.
{وادعوا مَنِ استطعتم} أي استعينوا ن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجأون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك.
{مِن دُونِ الله} متعلق بادعوا أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل: {إِن كُنتُمْ صادقين} في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان ثله وهو أيضًا يستلزم قدرتكم عليه، وجواب {ءانٍ} محذوف دل عليه المذكور قبل.


{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} الخطاب على ما روي عن الضحاك للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} أي ما أنزل إلا ملتبسًا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة {إِنَّمَا} فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسًا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: {لا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26] والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث أنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل {فاعلموا} إلخ أو من حيث أن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.
وجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقضي منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه: إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل، وكذا قوله سبحانه: {أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} مشكل أيضًا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببًا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا: {وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله} [المائدة: 106] حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير {فاعلموا أَنَّمَا أُنزِلِ} مصحوبًا بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل: من شدة الظهور الخفاء {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} أي واعلموا أيضًا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم عزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلانه ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولًا أوليًا، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع، ولهذا جىء بالفاء، وفي التعبير سلمون دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قبل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل: وفي ذلك أيضًا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في {لَكُمْ} للرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ} [القصص: 50]، وروي ذلك عن مجاهد، وكان المناسب للأمر بقل الإفراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضى، ومن ذلك:
وإن شئت حرمت النساء سواكم ***
والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} [البقرة: 24] وعبر بالاستجابة إيماءً إلى أنه صلى الله عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان ثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد؛ وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى {مُّسْلِمُونَ} مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي. وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: {فَلاَ تَكُ فِى مِرْيَةٍ مّنْهُ} [هود: 17] وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضًا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضًا، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.
ومن هنا استظهره أبو حيان. واستحسنه الزمخشري، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه، وإن قيل: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، ويكتب فالم في المصحف على ما قال الأجهوري بغير نون، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي البحر أن ما يحتمل أن تكون مصدرية أي أن التنزيل، وأن تكون موصولة عنى الذي أي أن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفاعل نزل ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون ما موصولة على قراءة الجمهور أيضًا، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم.


{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)}
{مَن كَانَ يُرِيدُ} أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر {الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال {كَانَ} للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلًا {نُوَفّ إِلَيْهِمْ أعمالهم فِيهَا} أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازًا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، و{نُوَفّ} متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون يوف بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما يوف بالياء مخففًا مضارع أوفى، وقرئ توف بالتاء مبنيًا للمفعول، ورفع {أعمالهم} والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ} [الشورى: 20] وحكى الفراء أن {كَانَ} زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط {يُرِيدُ} وكان يكون مجزومًا، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن نوفي بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي ***
أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيًا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.
ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلًا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصًا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرًا، ومنه:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم
{وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور للحياة الدنيا وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارًا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم عزل من كونها مستوجبة لذلك كما قال بعض المحققين بناءًا للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلًا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} [الإسراء: 18].
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8